بربر أُم المدن وحاضِرة الحَوَاضِر

تكتشف رفاهية أهلها وطربهم بين المغنيين والراقصات، ورحلات الحجيج من نواحي تومبكتو مالي وشنقيط، فيما يحكي سوقها عن أكبر ملتقىً تجاريّ من جهة سواكن وكورسكو

اقرأ المزيد
معرض الصور
سوق بربر
سوق بربر
سوق بربر
سوق بربر
موقع مدينة بربر
حي الدكة
حي الدكة
طابية بربر
سوق بربر
سوق بربر
محلية بربر
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
آيات مبارك
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
نبيل محمد نور طه
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

بربر أُم المدن وحاضِرة الحَوَاضِر

ملامحٌ صَامِدةٌ منذ آلاف السنين

عندما نتجوَّل في أحياء بربر تستوقفنا طُرز مبانيها القديمة، مقاهيها ومتاجرها فاغرة أفواهَ أبوابِهَا لكنوزٍ تاريخية يفوح منها عبق السنوات، ويشير سمت دواوينها الواسعة مرتفعة السُقوف والمُفَتَّحة، وحدائقها الغنّاء في أحياء مثل حي الهجانة، الدكة، حوش الدار، المنيدرة، نقزو، معينيفية، الشرام، الضانقيل، وغيرها؛ يُشيرُ لهندسة تخطيط المدن الإسلامية، ويقف شاهداً معمارياً لمدينةٍ مكوّنها الأول من العلماء المرموقين، المعروفين، والقادة العسكريين، وحيوات سكانها متعددي الجنسيات من جذورٍ شامية، مصرية وتركية، وبرغم اختلاف ألوانهم وسحناتهم، الإ أن توادّهم يُشعرك ولكأن بينهم صلة قربى. تكتشف رفاهية أهلها وطربهم بين المغنيين والراقصات، ورحلات الحجيج من نواحي تومبكتو مالي وشنقيط، فيما يحكي سوقها عن أكبر ملتقىً تجاريّ من جهة سواكن وكورسكو، يرتاده التجار الحضارمة والمصريين لتصدير ريش النعام والعاج واستيراد الأقمشة والعطور والمجوهرات، ولاتزال معالم سوق المخيرف المبنية من الطوب الأخضر بين صفية مسقوفة لذلك يسمونها بـ(أسواق القصيرية)، وقد جاءها الرحالة بريكهارد في العام١٨٢٣م، ووصف منازلها بأنها مبنية من الطوب اللبن وتتكون من ساحة كبيرة تُقسَّم إلى فنائات داخلية وخارجية، ووحدات سكنية للعائلة والضيافة، وأخرى للخادمات، وعدد من النوافذ الصغيرة أعلى المنزل. والباب مصنوع من الخشب وله قفل خشبي رديء الصنع )

ولحداثة مدينتهم قديماً، يتباهى سكّانها بمقولة قديمة (بربر عَلَّمت الناس الحديث ولبس القميص)، تلك المشاهد مجتمعةً حكتها مسادير الشاعر أبراهيم ود الفراش، والتي سجَّلت الكثير من التيارات الحضارية، وتركت آثار أقدامها على مدينة بربر إبان الحكم التركي».

بَشُوفْ بَرْبَرْ بَشُوفْ جوخَا وحَرِيرَا

بَشُوفْ الميَضَنَه الوَسْطَ الجَزِيرَه

بَشُوفْ رَكْبَ العَبَابْدَه البَيْ خَبِيرَا

تَرَى البُرْدَينْ كَسَحْ فَاتْ القَطَيرَه

بَشُوفْ تَرَبَيزَه فِيهَا تَمَانْيَّه بِيرَه

وإبراهيم الفراش يُعد أول ساعي بريد سوداني لثاني مكتب بريد في السودان، وكان يطوف عبر ناقته لتوزيع الخطابات عند فترة المهدية فصادَفَه أثناء ذلك اللورد كتشنر فأعجب بمنظره، وطلب برسم ود الفراش على ناقته لأول طابع بريد سوداني.

ويقول أهلها إن (مخيرف النور) هو الاسم الأول لتلك المدينة، ويعود لأحد الرعاة في تلك الأنحاء، وتُعيده مقولة أخرى إلى قِلَّة أمطار خريفها فيقال: (إنه مجرد مخيرف). وتتعدَّد الروايات الشفاهية أيضاً في أصل كلمة (بربر) ثمة مقولة تعود إلى التجار القدماء القادمين من سواكن أو السواحل البعيدة، وللتعبير عن بعد المكان يقولون وصلنا (برالبر) أو(بربر). وأخرى أعادته لاسم ملكتها السيدة بربره النوبية.

ومن خلال الأحافير والآثار الباقية من أدوات ونقوش، تبيَّن أنها تعود إلى العهد المروي (١٢٠٠ق.م)، فقد وجدت المستقرات الأولى لإنسان النيل عند جبل نخرو أو (جبل النخرة) على الجهة الغربية من النيل، والذي لايزال ماثلاً، تقوم على أكتافه مصانع الأسمنت. ولم يتوقف التواصل الحضاري فيها بل ازداد ازدهاراً وتمثل في مدينة الضانقيل المروية، ثم وَمَضَ بريقها في عهد الفونج، المهدية والتركية (١٤٠٥-١٨٩٨م)، على منطقة مرتفعة تسمى(قوز الفونج)، وعلى بعد حوالي ٣٨ كلم بُنِيَت بربر القديمة (القيقر) ١٨٢١م، وتبقت منها بعض المعالم مثل مسجد الفكي محمد و(خلوة الواقعة) وتسمى (مدرسة يوم الحساب)، نسبة لاعتقاد البعض قديماً بأن زيارتها لطلب المغفرة كفيلٌ بمحو الذنوب. ويقول السكان بأن الوالي المحجوب في فترة الفونج قد أمر الناس في المخيرف ببنائها، وقد خصَّ في دعوته النساء لكي يشاركن في أعمال البناء، ولازال الجدار الغربي لمصلى النساء شاهداً على ذلك. أما مدينة الحجاج هو المكان الذي يجتمع فيه الحجاج، وتقع عند الحافة الشرقية لمدينة بربر ١٥٠٤م، وهي مستطيلة الشكل بها غُرف صغيرة يبلغ عددها أكثر من ستين غرفة بنيت بالطوب اللبن. فيما بنت البعثة الرومانية الكاثوليكية الكنيسة بالطوب الأحمر المحروق، وبالقرب منها بئر (ساقية) في شكل دائري، وطُلِيَت بالملاط (جيررمل). وتشير مباني رئاسة مفتش الحكومة التركية ومبنى المصبغة إلى مستوىً عالٍ في تقنية البناء.

هذه المعالم جميعها تتمَظهَر في مشاهد فولوكلورية منذ العهد المروي، ظلَّت تُقاوم ردحات الزمن وقد طرأت عليها العديد من التغيُّرات، مثل اكتشاف معدن الذهب في مثلث يمتد من شمال الباوقة غرباً وشمال شرق العبيدية شرقاً، ثم إنشاء طريق العبيدية الشلاتين، وعلى إثره تم إنشاء محطة جمارك العبيدية، مما أدى إلى ازدهار المنطقة تجارياً. والآن يُضاف إلى ذلك التغيُّر الاقتصادي الذي حدث سريعاً بفعل الحرب، والذي أنعش سوق بربر القديم وأدى لازدهار تجارته، ورغم ذلك لم تُغيّر ملامحها أمواج المتغيرات العاتية، ولا تزال تُشيع في روح متأملها شهوة الأنقاض والأزمنة الغابرة.

وتتبدى في هذا المقام الكثير من التساؤلات، فبالرغم من التطور والتعليم الذي نهله أبناؤها منذ سنوات غابرة فإن حياتها التقليديّة لم تتغير، وتعيش مجتمعاتها حياة مستقرة مما يؤكد وظيفة التراث الثقافي المادي متمثلاً في المعمار السائد، وإسهامه في تعزيز الهوية والإحساس بالمواطنة وتوارث القيم الإنسانية والمعارف التقليدية والمهن. لعل ما يُضعضع إمكانية التغيير العمراني والحفاظ على هذه الثقافة المادية هو ذاك الإرث الثقافي اللامادي، مثل الأدب الشفاهي والعادات والتقاليد التي لايزال يمارسها سكانها الأصليين في مجابهة القيم والمفردات الوافدة.

ويرتدي أغلب رجالها صديرياً وجلباباً و(جكانة) -وهي عبارة عن سروال أبيض اللون يلامس منتصفه الأرض- وتستمر زيجاتهم لخمسة أيام أو أكثر، وفي العادة يتم ذبح عدد من الإبل والضأن. تتميز بربر بتراثها الغنائي القديم كأغنيات الحماسة وضربات (الدلوكة) التي تمضي أنغامها على إيقاع الروح ونبض القلب، فيسري الدم قافزاً في العروق استعداداً لـ(البُطان)، حينها يحمل العريس السوط ويقف له أحد الرجال ثابتاً شامخاَ بأنفه وسط أهازيج وزغاريد النساء اللائي يتمايَلْنَ وهنَّ يُقلِّدن الحمائم، ويمتزج الراقصون بأداءٍ متشابه وهو الهزّ بالعصيّ والكتف والرأس، وكثيراً ما يقترن الغناء بحالات جَذْب تَلسعهم أثناء وصف شيوخ القبائل وكبارها.

ﺳﻤﺤﺔ ﺍﻟﻬﻴﺒﺔ فوق مختار

ﻟﻲ ﺍﻟﻤُو فشار

ﺧﺎﻳﻠﺔ ﺍﻟﻤﻠﻜﺔ ﻓﻮﻕ ﻣﺨﺘﺎﺭ

ﺇيدك ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺨﻮﻥ ﺍﻟﺠﺎﺭ

ﺇيدك ﺗﺮجُم ﺍﻟﺤﻘﺎﺭ

قالت أمو جيد لي ناظر العبيدية

جدك ﻳﻐﻔﺮ ﺍﻟﺴﻴّﺔ

ﻭﺧﺎﻟﻒ ﻟﻠﺮُﺟﺎﻝ ﻛﻴّﺔ

وترمز رقصاتهم إلى الفروسية، وتجنح أخرى إلى حركات سير الإبل والخيل، ويَتقَمَّص كبارُهم روح الماضي وعراقته، ويُقلّدهم في ذلك الصبيان.

ﻣﻴﺮﻑ ﻭﺩ ﻣﻠﻮﻙ ﺑﺮﺑﺮ

خَتَّ ﺍﻟﻜﺮﺳﻲ ﻭاﺗﺤَﻜَّﺮ

ﻗﺎﻝ ﻟﻠﻤﺴﺘﺮ إتذكر

مك ﻓﻲ ﺩﺍﺭﻧﺎ ﻣﺎ ﺑﺘﻈﻬﺮ

هكذا صَمدت بربر وهي تُخفي بين طيّاتها كنزاً من الجمال والتاريخ، تمنح زائريها تجربةً أكثر حميمية وهدوءاً، في أجواء محلية تسمح برؤية العالم من زاوية مختلفة؛ حيث المَشَاهِد على حالها والتقاليد باقية، محافِظَةً على هويّتها في وجه كلّ الثقافات القادمة التي سَعَت لسلخها عن واقعها.

أفراحهم وأتراحهم، مسكنهم وملبسهم، علاجاتهم، معتقداتهم، خصبهم وسنين جدبهم، حياتهم التي تحمل بركةً وجمالاً خفيَّاً لا يُدركه إلا من استنشق رائحة الثوم والبصل عند أوانِ حصادِه، وفَزَع على قَرْعِ نحاس الميرفاب، شَاهد سباق الهجن، تَسَوَّق عند عطارة أولاد كراي، وتذوَّق طعم الفول والفاصوليا المطهوة في (قِدرَة) داخل باطن الأرض.

تم توفير جميع الصور في المقالة من قبل المؤلف

هوامش:

حي الهجانة: موقع مراسلي البوستة على الجمال من بربر إلى أم درمان.

الدلوكة: وعاء فخاري مخروطي دائري متوسط الحجم مفتوح الطرفين ومجلَّد بجلد غنم أو بقر.

البُطان : من العادات الراسخة عند بعض القبائل السودانية، يقوم فيها العريس بمهمة جلد الشباب على ظهورهم بالسوط.

الراوية نعيمة بت إدريس: قيلت في مختار ود سعد تاجر المراكب بين مصر والسودان، وبقية القصيدة في مختار الرحيمابي ناظر العبيدية، من كلمات الشاعرة السالكة بت علي ود بشير. ورواية أخرى: بأنها قيلت في ناظر مختار الرحيمابي فقط

قدرة : إناء يُطبخ فيه خصوصاً الحبوب والبقوليات

المراجع

جون لويس بوركهارت. رحلات في بلاد النوبة والسودان. ص179 ترجمة فؤاد اند اروس، المجلس الأعلى للثقافة.2007م، القاهرة.

سيد حامد حريز، فن المسدار، ص28، دار المأمون، الخرطوم 1992م.

محمد علي الفراش، ديوان ود الفراش، ص،15 الدار السودانية للكتب ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، الخرطوم.

ود الفراش1898م-1983م

حيدر محمد سليمان، رجل كدباس الشيخ أحمد الجعلي الشايب، ص39 دار آرثيريا للطباعة والنشر، ط1 2023م، الخرطوم

صلاح عمر الصادق، دراسات سودانية في الآثار والفولكلوروالتاريخ ص179، دار عزة للنشر والتوزيع،الخرطوم2006م

نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، الطبعة الثانية، بيروت177 ص105،106

محمد الأمين الغبشاوي، تاريخ بربر، مكتب النشر، الخرطرطوم، ص14-15

No items found.
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
آيات مبارك
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator
نبيل محمد نور طه

بربر أُم المدن وحاضِرة الحَوَاضِر

ملامحٌ صَامِدةٌ منذ آلاف السنين

عندما نتجوَّل في أحياء بربر تستوقفنا طُرز مبانيها القديمة، مقاهيها ومتاجرها فاغرة أفواهَ أبوابِهَا لكنوزٍ تاريخية يفوح منها عبق السنوات، ويشير سمت دواوينها الواسعة مرتفعة السُقوف والمُفَتَّحة، وحدائقها الغنّاء في أحياء مثل حي الهجانة، الدكة، حوش الدار، المنيدرة، نقزو، معينيفية، الشرام، الضانقيل، وغيرها؛ يُشيرُ لهندسة تخطيط المدن الإسلامية، ويقف شاهداً معمارياً لمدينةٍ مكوّنها الأول من العلماء المرموقين، المعروفين، والقادة العسكريين، وحيوات سكانها متعددي الجنسيات من جذورٍ شامية، مصرية وتركية، وبرغم اختلاف ألوانهم وسحناتهم، الإ أن توادّهم يُشعرك ولكأن بينهم صلة قربى. تكتشف رفاهية أهلها وطربهم بين المغنيين والراقصات، ورحلات الحجيج من نواحي تومبكتو مالي وشنقيط، فيما يحكي سوقها عن أكبر ملتقىً تجاريّ من جهة سواكن وكورسكو، يرتاده التجار الحضارمة والمصريين لتصدير ريش النعام والعاج واستيراد الأقمشة والعطور والمجوهرات، ولاتزال معالم سوق المخيرف المبنية من الطوب الأخضر بين صفية مسقوفة لذلك يسمونها بـ(أسواق القصيرية)، وقد جاءها الرحالة بريكهارد في العام١٨٢٣م، ووصف منازلها بأنها مبنية من الطوب اللبن وتتكون من ساحة كبيرة تُقسَّم إلى فنائات داخلية وخارجية، ووحدات سكنية للعائلة والضيافة، وأخرى للخادمات، وعدد من النوافذ الصغيرة أعلى المنزل. والباب مصنوع من الخشب وله قفل خشبي رديء الصنع )

ولحداثة مدينتهم قديماً، يتباهى سكّانها بمقولة قديمة (بربر عَلَّمت الناس الحديث ولبس القميص)، تلك المشاهد مجتمعةً حكتها مسادير الشاعر أبراهيم ود الفراش، والتي سجَّلت الكثير من التيارات الحضارية، وتركت آثار أقدامها على مدينة بربر إبان الحكم التركي».

بَشُوفْ بَرْبَرْ بَشُوفْ جوخَا وحَرِيرَا

بَشُوفْ الميَضَنَه الوَسْطَ الجَزِيرَه

بَشُوفْ رَكْبَ العَبَابْدَه البَيْ خَبِيرَا

تَرَى البُرْدَينْ كَسَحْ فَاتْ القَطَيرَه

بَشُوفْ تَرَبَيزَه فِيهَا تَمَانْيَّه بِيرَه

وإبراهيم الفراش يُعد أول ساعي بريد سوداني لثاني مكتب بريد في السودان، وكان يطوف عبر ناقته لتوزيع الخطابات عند فترة المهدية فصادَفَه أثناء ذلك اللورد كتشنر فأعجب بمنظره، وطلب برسم ود الفراش على ناقته لأول طابع بريد سوداني.

ويقول أهلها إن (مخيرف النور) هو الاسم الأول لتلك المدينة، ويعود لأحد الرعاة في تلك الأنحاء، وتُعيده مقولة أخرى إلى قِلَّة أمطار خريفها فيقال: (إنه مجرد مخيرف). وتتعدَّد الروايات الشفاهية أيضاً في أصل كلمة (بربر) ثمة مقولة تعود إلى التجار القدماء القادمين من سواكن أو السواحل البعيدة، وللتعبير عن بعد المكان يقولون وصلنا (برالبر) أو(بربر). وأخرى أعادته لاسم ملكتها السيدة بربره النوبية.

ومن خلال الأحافير والآثار الباقية من أدوات ونقوش، تبيَّن أنها تعود إلى العهد المروي (١٢٠٠ق.م)، فقد وجدت المستقرات الأولى لإنسان النيل عند جبل نخرو أو (جبل النخرة) على الجهة الغربية من النيل، والذي لايزال ماثلاً، تقوم على أكتافه مصانع الأسمنت. ولم يتوقف التواصل الحضاري فيها بل ازداد ازدهاراً وتمثل في مدينة الضانقيل المروية، ثم وَمَضَ بريقها في عهد الفونج، المهدية والتركية (١٤٠٥-١٨٩٨م)، على منطقة مرتفعة تسمى(قوز الفونج)، وعلى بعد حوالي ٣٨ كلم بُنِيَت بربر القديمة (القيقر) ١٨٢١م، وتبقت منها بعض المعالم مثل مسجد الفكي محمد و(خلوة الواقعة) وتسمى (مدرسة يوم الحساب)، نسبة لاعتقاد البعض قديماً بأن زيارتها لطلب المغفرة كفيلٌ بمحو الذنوب. ويقول السكان بأن الوالي المحجوب في فترة الفونج قد أمر الناس في المخيرف ببنائها، وقد خصَّ في دعوته النساء لكي يشاركن في أعمال البناء، ولازال الجدار الغربي لمصلى النساء شاهداً على ذلك. أما مدينة الحجاج هو المكان الذي يجتمع فيه الحجاج، وتقع عند الحافة الشرقية لمدينة بربر ١٥٠٤م، وهي مستطيلة الشكل بها غُرف صغيرة يبلغ عددها أكثر من ستين غرفة بنيت بالطوب اللبن. فيما بنت البعثة الرومانية الكاثوليكية الكنيسة بالطوب الأحمر المحروق، وبالقرب منها بئر (ساقية) في شكل دائري، وطُلِيَت بالملاط (جيررمل). وتشير مباني رئاسة مفتش الحكومة التركية ومبنى المصبغة إلى مستوىً عالٍ في تقنية البناء.

هذه المعالم جميعها تتمَظهَر في مشاهد فولوكلورية منذ العهد المروي، ظلَّت تُقاوم ردحات الزمن وقد طرأت عليها العديد من التغيُّرات، مثل اكتشاف معدن الذهب في مثلث يمتد من شمال الباوقة غرباً وشمال شرق العبيدية شرقاً، ثم إنشاء طريق العبيدية الشلاتين، وعلى إثره تم إنشاء محطة جمارك العبيدية، مما أدى إلى ازدهار المنطقة تجارياً. والآن يُضاف إلى ذلك التغيُّر الاقتصادي الذي حدث سريعاً بفعل الحرب، والذي أنعش سوق بربر القديم وأدى لازدهار تجارته، ورغم ذلك لم تُغيّر ملامحها أمواج المتغيرات العاتية، ولا تزال تُشيع في روح متأملها شهوة الأنقاض والأزمنة الغابرة.

وتتبدى في هذا المقام الكثير من التساؤلات، فبالرغم من التطور والتعليم الذي نهله أبناؤها منذ سنوات غابرة فإن حياتها التقليديّة لم تتغير، وتعيش مجتمعاتها حياة مستقرة مما يؤكد وظيفة التراث الثقافي المادي متمثلاً في المعمار السائد، وإسهامه في تعزيز الهوية والإحساس بالمواطنة وتوارث القيم الإنسانية والمعارف التقليدية والمهن. لعل ما يُضعضع إمكانية التغيير العمراني والحفاظ على هذه الثقافة المادية هو ذاك الإرث الثقافي اللامادي، مثل الأدب الشفاهي والعادات والتقاليد التي لايزال يمارسها سكانها الأصليين في مجابهة القيم والمفردات الوافدة.

ويرتدي أغلب رجالها صديرياً وجلباباً و(جكانة) -وهي عبارة عن سروال أبيض اللون يلامس منتصفه الأرض- وتستمر زيجاتهم لخمسة أيام أو أكثر، وفي العادة يتم ذبح عدد من الإبل والضأن. تتميز بربر بتراثها الغنائي القديم كأغنيات الحماسة وضربات (الدلوكة) التي تمضي أنغامها على إيقاع الروح ونبض القلب، فيسري الدم قافزاً في العروق استعداداً لـ(البُطان)، حينها يحمل العريس السوط ويقف له أحد الرجال ثابتاً شامخاَ بأنفه وسط أهازيج وزغاريد النساء اللائي يتمايَلْنَ وهنَّ يُقلِّدن الحمائم، ويمتزج الراقصون بأداءٍ متشابه وهو الهزّ بالعصيّ والكتف والرأس، وكثيراً ما يقترن الغناء بحالات جَذْب تَلسعهم أثناء وصف شيوخ القبائل وكبارها.

ﺳﻤﺤﺔ ﺍﻟﻬﻴﺒﺔ فوق مختار

ﻟﻲ ﺍﻟﻤُو فشار

ﺧﺎﻳﻠﺔ ﺍﻟﻤﻠﻜﺔ ﻓﻮﻕ ﻣﺨﺘﺎﺭ

ﺇيدك ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺨﻮﻥ ﺍﻟﺠﺎﺭ

ﺇيدك ﺗﺮجُم ﺍﻟﺤﻘﺎﺭ

قالت أمو جيد لي ناظر العبيدية

جدك ﻳﻐﻔﺮ ﺍﻟﺴﻴّﺔ

ﻭﺧﺎﻟﻒ ﻟﻠﺮُﺟﺎﻝ ﻛﻴّﺔ

وترمز رقصاتهم إلى الفروسية، وتجنح أخرى إلى حركات سير الإبل والخيل، ويَتقَمَّص كبارُهم روح الماضي وعراقته، ويُقلّدهم في ذلك الصبيان.

ﻣﻴﺮﻑ ﻭﺩ ﻣﻠﻮﻙ ﺑﺮﺑﺮ

خَتَّ ﺍﻟﻜﺮﺳﻲ ﻭاﺗﺤَﻜَّﺮ

ﻗﺎﻝ ﻟﻠﻤﺴﺘﺮ إتذكر

مك ﻓﻲ ﺩﺍﺭﻧﺎ ﻣﺎ ﺑﺘﻈﻬﺮ

هكذا صَمدت بربر وهي تُخفي بين طيّاتها كنزاً من الجمال والتاريخ، تمنح زائريها تجربةً أكثر حميمية وهدوءاً، في أجواء محلية تسمح برؤية العالم من زاوية مختلفة؛ حيث المَشَاهِد على حالها والتقاليد باقية، محافِظَةً على هويّتها في وجه كلّ الثقافات القادمة التي سَعَت لسلخها عن واقعها.

أفراحهم وأتراحهم، مسكنهم وملبسهم، علاجاتهم، معتقداتهم، خصبهم وسنين جدبهم، حياتهم التي تحمل بركةً وجمالاً خفيَّاً لا يُدركه إلا من استنشق رائحة الثوم والبصل عند أوانِ حصادِه، وفَزَع على قَرْعِ نحاس الميرفاب، شَاهد سباق الهجن، تَسَوَّق عند عطارة أولاد كراي، وتذوَّق طعم الفول والفاصوليا المطهوة في (قِدرَة) داخل باطن الأرض.

تم توفير جميع الصور في المقالة من قبل المؤلف

هوامش:

حي الهجانة: موقع مراسلي البوستة على الجمال من بربر إلى أم درمان.

الدلوكة: وعاء فخاري مخروطي دائري متوسط الحجم مفتوح الطرفين ومجلَّد بجلد غنم أو بقر.

البُطان : من العادات الراسخة عند بعض القبائل السودانية، يقوم فيها العريس بمهمة جلد الشباب على ظهورهم بالسوط.

الراوية نعيمة بت إدريس: قيلت في مختار ود سعد تاجر المراكب بين مصر والسودان، وبقية القصيدة في مختار الرحيمابي ناظر العبيدية، من كلمات الشاعرة السالكة بت علي ود بشير. ورواية أخرى: بأنها قيلت في ناظر مختار الرحيمابي فقط

قدرة : إناء يُطبخ فيه خصوصاً الحبوب والبقوليات

المراجع

جون لويس بوركهارت. رحلات في بلاد النوبة والسودان. ص179 ترجمة فؤاد اند اروس، المجلس الأعلى للثقافة.2007م، القاهرة.

سيد حامد حريز، فن المسدار، ص28، دار المأمون، الخرطوم 1992م.

محمد علي الفراش، ديوان ود الفراش، ص،15 الدار السودانية للكتب ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، الخرطوم.

ود الفراش1898م-1983م

حيدر محمد سليمان، رجل كدباس الشيخ أحمد الجعلي الشايب، ص39 دار آرثيريا للطباعة والنشر، ط1 2023م، الخرطوم

صلاح عمر الصادق، دراسات سودانية في الآثار والفولكلوروالتاريخ ص179، دار عزة للنشر والتوزيع،الخرطوم2006م

نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، الطبعة الثانية، بيروت177 ص105،106

محمد الأمين الغبشاوي، تاريخ بربر، مكتب النشر، الخرطرطوم، ص14-15