حين تَصرُخ الأرض: تاية توت

في قلب العاصمة السودانية، حيث يلتقي النيلان -الأبيض والأزرق- تتوسَّد جزيرة توتي امتدادها الأخضر، كما لو أنها وُضعت عمداً بين الأنهار لتكون حلقة الوصل، أو ربما منطقة الاختبار.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
رَيَّان بُشارة
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
نبيل محمد نور طه
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

من جسدٍ إلى جدار، ومن مقاومةٍ إلى هندسةٍ للنجاة

(حكاية مجتمعٍ حَمى ذاكرته من الغرق، فصارت الأرض تحفظه كما يحفظها)

جزيرة عند ملتقى الأنهار: حين يصير الجغرافيا مصيرًا

في قلب العاصمة السودانية، حيث يلتقي النيلان -الأبيض والأزرق- تتوسَّد جزيرة توتي امتدادها الأخضر، كما لو أنها وُضعت عمداً بين الأنهار لتكون حلقة الوصل، أو ربما منطقة الاختبار.

ليست مجرد رقعة أرض محاطة بالماء، بل حالة جغرافية مُعقَّدة: من الشرق تحدّها الخرطوم بحري، من الجنوب الخرطوم، ومن الغرب أم درمان. أما من الأعلى، فسماءٌ مفتوحة لا تحمي، ومن الأسفل نهرٌ لا يمكن التنبؤ به، يحمل الطمي حيناً، ويجرُّ الغَمْر حيناً آخر.

هذا التكوين الجغرافي جعل من توتي أكثر من مجرد جزيرة زراعية تبلغ مساحتها حوالي 950 فدانًا؛ لقد جعل منها موضع اختبار دائم للنجاة. فكونها محاطة بالماء من الجهات الأربع، بلا مصدّات طبيعية، وبارتفاع بسيط لا يتجاوز أمتاراً معدودة عن سطح النيل، جعلَت من الفيضان عنصراً ثابتاً في معادلتها السنوية، وليس طارئاً موسميّاً. لذلك، لم يكن أمام سكانها خيار سوى أن يصبحوا خبراء في قراءة سلوك الماء، وفي هندسة الاستجابة قبل أن يصل البلل إلى العتبة.

في أماكن أخرى، تُصمَّم أنظمة الحماية ضدّ الكوارث في غرف مكيّفة، على الورق. أما في توتي، فقد صُمّمت "التاية" في التراب، بالجسد، وبالإرث.

هكذا، تحولت الجغرافيا من عبء إلى مدخل للابتكار، ومن خطرٍ يهدّد الحياة إلى باعثٍ على التضامن وبناء الذاكرة المجتمعية. فالفيضان في توتي لم يكن مجرد حدث طبيعي، بل شرط وجودٍ، و"التاية" لم تكن حلاً مؤقتاً، بل بنية مقاومة دائمة تُعاد صياغتها كل عام مع تغيّر النهر والمكان والناس.

لكن، ما التاية؟

ليست منشأة هندسية، وليست فكرة من خلف المكاتب. التاية في توتي هي خيمة تُنصَب عند أول بوادر الفيضان، لا للنوم بل للعمل. تتقاسم المجموعات أدوارها تحت ظلّها: فريقٌ يراقب منسوب النيل ليلاً ونهاراً، وفريقٌ يُسعف من تلسعه الحشرات والعقارب التي يأتي بها الغمر، وآخرون ينقلون الأثاث من البيوت المهددة، ويوزّعون الطعام، ويتواصلون فيما بينهم بانتظام دقيق.

هي غرفة عمليات من قماش وطين ونوايا صافية، تَظهَر في لحظة الطوارئ، وتختفي مع تراجع الخطر. التاية هي ما يصنعه الناس حين تغيب المؤسسات، وحين لا يبقى لهم إلا بعضهم البعض.

من جسدٍ يصدّ الماء، إلى نظامٍ يُعَلِّم كيف لا نغرق

لم تكن "تاية" توتي يوماً نظاماً مكتوباً، ولا مشروعاً أنشأته مؤسسة، بل وُلدت في لحظةِ رفض. في عام 1944، حين أمر الحاكم الإنجليزي بإخلاء الجزيرة لصالح ما أراده من مشاريع استعمارية، وقف الناس في وجه القرار بصمتٍ نابع من اليقين. رفضهم كان بداية القصة، لكن الفيضانات هي من صَقلتها.

حين ضرب فيضان 1946 الجزيرة، تراجعت سلطات الاحتلال، وتُرِكَ السكان وحدهم في مواجهة مصيرٍ مائيّ. لم يصرخوا، لم يفرّوا، بل شكّلوا بأجسادهم جداراً صدَّ الموج، وبأيديهم صنعوا أوّل "تاية" من لا شيء. كان ذلك الفعل أول تمرينٍ جماعيّ على الحماية الذاتية. ومع الوقت، نضج ذلك التمرين، وتحول إلى نظام اجتماعي هندسيّ – لا يُدرَّس في الجامعات، بل يُغرس في الذاكرة الشعبية. كل عام، كانت التاية تُعاد صياغتها وفقًا للمكان، والناس، والمخاطر.

تاية تنبض، تتغير، وتُورَّث.

هكذا وُلدت "هندسة النجاة"، وهكذا صارت تاية توتي واحدة من أذكى أشكال التضامن المجتمعي في وجه الطبيعة والخذلان.

حين يكون الإنذار طمياً، والصوت طيراً غائباً

في توتي، لم تكن التاية صدىً لصفارات الإنذار، بل عينٌ تراقب ما لا يُقال، ويدٌ تتحرَّك قبل أن يُطلب منها ذلك. حين تتغير زرقة النيل إلى لونٍ خبيث، حين يختفي طائر الغاق، حين تنكمش رائحة الطين وتصبح رطبة بشكلٍ مبالغ فيه؛ هذه إشارات تُلتَقط لا عن طريق أجهزة، بل عن طريق أجساد عاشت بجانب النهر طويلاً حتى صارت تفهم همسه. الناس لا يُعلِّمون أبناءهم هذه العلامات نظرياً، بل يمرّرونها خلال الأحاديث، والقصص، والركض العفوي نحو الجرف.

في تلك اللحظة، تُرفَع التاية. لا صراخ، لا طوارئ، بل تحوُّل فوريّ من الحياة العادية إلى حياة يقظة، كلٌّ فيها يعرف موضعه كما يعرف اسمه.

حين تُصبح الجماعة جسداً واحداً

ليست التاية خيمة تُنصب فحسب، بل مُجسَّم حيّ للتنظيم الجماعي. يتحوَّل الحيّ كله إلى شبكة من النقاط البشرية:

النساء: يكشف نظام "التاية" عن دور محوري ومُعترف به للمرأة التوتاوية، يتجاوز الأدوار النمطية:

المراقبة الحكيمة: العديد من النساء، خاصة كبيرات السن ذوات الخبرة الطويلة، كنّ خبيرات في قراءة علامات النهر والسماء. ثقتهنّ في تحليلاتهن كانت حاسمة في قرار التاية.

صنع القرار: مشاركتهن في تقييم الموقف ومناقشة ضرورة رفع الإنذار كانت فعالة. كانت آراؤهن تُحترم في المجالس غير الرسمية.

التنظيم الخفي: أثناء وبعد الإنذار، لعبن دوراً رئيسياً في تهدئة الروع، تنظيم نقل الأطفال وكبار السن، وتأمين المؤن الأساسية، ضمانًا لاستمرارية الحياة وسط الفوضى المحتملة. قيادة مجتمعية صامتة وقوية. إعداد الطعام في ساحات المساجد، لا لرجال أسرهنّ فقط، بل لمجهولين أصبحوا إخوة في المعركة.

الشيوخ يراقبون النهر كمن يقرأ وصيّة مكتوبة على سطح الماء. الشباب ينقلون الطين على أكتافهم، وبعضهم يملأ أكياساً بأحجارٍ مأخوذة من بقايا حائط مدرسة مهدّمة. حتى الأطفال يعرفون مواقع الضعف في التَّرَس، وأي الزوايا يجب دعك الطين فيها بإحكام. كلّ بيتٍ يُصبح نقطة تموين، كل شارع ممرّ إغاثة، وكل ساحة قيادة تاية لا تُغلق أبوابها. في ذلك، لا تُعاد فقط صياغة الحياة، بل تُختبر قدرة الجماعة على أن تُكَوِّنَ نظاماً من ذاتها، بلا حاجة لأي خارج.

١٩٤٦: حين وقف الجسد مكان الطين

في تشرين الأول من عام 1946، حين فاض النيل حتى نَسي اسمه، وقفت الجزيرة الصغيرة تواجهه بلا عتاد، بلا تمويل، بلا وعود. الرجال التفّوا حول الحافة، أذرعهم متشابكة، أجسادهم غارقة حتى الركب، وجفونهم لا تعرف النوم. أُفرغت مخازن الطعام من محتوياتها لتُحوَّل إلى أجولة صدّ، والأكياس المليئة بالأرز أُفرغت دون تردد، فقط لأنّ الماء لا ينتظر أن ننقذ غذاءنا قبل ذاكرتنا. النساء مَزَجنَ الطين بالماء، وجَعلنَ أجسادهنّ مصانع صغيرة للطوب الطيني العاجل.

حين وصل الخبر إلى العالَم

"الفقرة التالية تستند إلى محاكاة درامية واقعية مستلهمة من شهادات أهل توتي، تهدف لتقريب الصورة الحسية للقارئ دون أن تخلّ بالواقع الميداني للممارسات المجتمعية".

لم يكن ما يحدث في توتي سرّاً. عندما وصلت أخبار التنظيم الأهلي إلى المؤسسات الدولية، أرسلت الأمم المتحدة وفدًا من الخبراء. رأوا بأعينهم: رجلًا يقرأ ارتفاع المياه من عصا محفورة. طفلة تُسرع لجارتها الصمّاء لتنقذها. امرأة تَدفن بذوراً في إناء طينيّ، لتعود للحياة بعد الفيضان. قال أحدهم بدهشة: "هذه ليست إدارة كوارث.. هذا احتفالٌ بالحياة في وجه الموت".

بين هدير الحرب وهمس الفيضان: تاية اليوم تمشي على حد السكين

منذ اندلاع الحرب في 2023، لم تَعُد التاية كما كانت. المجتمع الذي كان يعمل كآلة واحدة، تَفَكَّك تحت وطأة النزوح، الغياب، والخوف. انخفضت نسب المشاركة، وتشتَّتَت العائلات، وارتفعت تكلفة البقاء.

الرمل، الذي كان يُؤخذ من الشاطئ، صار يُشترى أو يُستعاض عنه بركام البيوت المهدّمة. الخبراء، الذين يعرفون كيف يبنون التَّرس، باتوا سبعة فقط ممن بقوا في الجزيرة. لكن رغم ذلك، لم تختفِ التاية. كلما زاد الخطر، زاد عنادها. هي لا تحتاج إلى كثافةٍ لتعمل، بل إلى ذاكرة، والذاكرة لا تموت، بل تنتقل من جسدٍ إلى آخر.

تحديات العصر: هل تصمت أصوات التاية؟

اليوم، يواجه هذا التراث العبقري تحديات وجودية:

تغير المناخ: أصبحت أنماط الفيضان أكثر تطرّفاً ولا يمكن التنبؤ بها. فيضانات مفاجئة وعنيفة أو جفاف غير مسبوق يتحديان دقة الملاحظة التقليدية القائمة على أنماط تاريخية مستقرة نسبيّاً (مصدر: تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC حول منطقة حوض النيل).

التوسع العمراني والبنى التحتية: سدود جديدة، تعديل مجاري الأنهار، وزحف العمران في الخرطوم وأمدرمان يغيّران ديناميكيات تدفق المياه حول توتي بشكل قد لا تستوعبه معادلات "التاية" القديمة بالكامل.

النزوح وضعف التماسك: نزوح بعض الأسر والضغوط الاقتصادية أَضعفت في بعض الجوانب ذلك التماسك المجتمعي العضوي الذي كان وقودَ نظامِ "التاية".

نقل المعرفة للأجيال الجديدة يحتاج جهدًا واعياً.

التاية ليست خيمة، إنها حاسةٌ سادسة تُولد من العلاقة بين الناس والمكان

في توتي، لا تُبنى السدود فقط بالطين، بل بالثقة. لا تُرفع التايات لأن الدولة أَمَرت، بل لأن الجغرافيا هَمست، ولأن التاريخ علَّم. الماء هنا ليس أزمة موسمية، بل اختبارٌ متكرر لقدرة الناس على تَذكُّر أنفسهم كجماعة، لا كأفراد.

في كل موسم فيضان، يعود السكان ليعيدوا تشغيل ذاكرتهم المجتمعية. لا أحد يسأل الآخر: "ماذا أفعل؟"، بل يبدأ الفعل تلقائياً، كما لو أن الوعي الجمعي سبق السؤال. وحدها المجتمعات التي تعلَّمت أن تحيا بقرب النهر دون أن تركع له، هي من تنشئ مثل هذا النظام: نظام لا تصمّمه الجهات، بل تُولّده الحاجة، ويتغذَّى على المروءة، ويكبر كلما ضاقت الخيارات. التراث الحقيقي لا يُحفَظ في كتب، بل يُمارَس. وتاية توتي ليست ذكرى رومانسية، بل نظام بيئي اجتماعي حيّ، يعلّمنا:

- كيف نحمي أنفسنا بأنفسنا.

- كيف نقرأ علامات الأرض.

- كيف نُنقذ بعضنا بعضاً دون انتظار إنذار رسمي.

في زمن الأقمار الصناعية والتطبيقات، قد يتغير شكل التاية، لكنها ستبقى ما دامت الجزيرة تؤمن أن الإنذار الحقيقي يبدأ من الوعي، وأن النجاة تبدأ عندما نُصغي لهمسات النهر، لا حين يصرخ. التاية ليست خيمة، بل ثقافة مقاومة، تكنولوجيا فطرية، وبوصلةٌ تشير دوماً إلى حيث يكون الإنسان في مركز الحل، لا في هامش النجاة. وربما لهذا السبب، لم تختفِ التايات حتى حين اختفى كل شيء آخر. لأنها، ببساطة، ليست شيئاً يُبنى… بل شيءٌ يُؤمَن به.

من تايات توتي إلى الجزيرة أبا: لماذا لم تنتقل عبقرية النجاة إلى بقية السودان؟

حين ابتكر الإنسان درعه بيديه، وواجه فيضانه بالمقاومة لا بالانتظار، وُلدت "تايات توتي". لكن، هل امتدت هذه العبقرية إلى بقية السودان؟

في قلب الخرطوم، تحديدًا في جزيرة توتي، لم تنتظر المجتمعات المحلية "وصول النجدة". بل حَاكَت نجدةً ذاتية من الطين والشجر والحدس الجمعي، فظهرت "التاية" كأيقونة سودانية في فن النجاة من الغرق. لكن حين يتدفق النيل الأبيض فوق ضفّاته في الجزيرة أبا، أو حين تغرق سنار، أو الرصيرص، أو الدندر، أو حتى أطراف نيالا… أين تختبئ هذه العبقرية؟ ولماذا لا تُنسخ تايات توتي هناك؟.

في الجزيرة أبا، يواجه الناس الفيضانات بنفس الوعي المقاوم، لكن بإمكانات أقل تنظيماً. يعتمد السكان المحليون على سدود ترابية تقليدية، ودعامات من الأكياس الرملية، وجهود مجتمعية خالصة، أشبه بمدٍّ جسديّ يتكئ على الأمل. غالباً ما تتَحرَّك المنظمات في وقت متأخر، وتصل الدولة متأخرة أو لا تصل أبداً، ومع ذلك، لا تتوقف الحياة.

أما في الدندر، حيث تتحوَّل التربة إلى فخاخ من الطين، فقد نشأت بعض أشكال "التايات" الغريزية -يقوم الأهالي برفع منازلهم على قواعد حجرية أو طينية، ويبنون حواجز يدوية من بقايا مواد البناء. لا أحد أطلق عليها اسماً، لكنهم جميعاً يفهمون أن ما يبنونه هو لحظة نجاة. في هذه المناطق، "النجاة" تُنسج من الشراكة أكثر من المعرفة، ومن العادة أكثر من الدراسة.

في نيالا وسنار، ومع تصاعد ظواهر تغير المناخ، ازدادت الفيضانات العشوائية. الحلول تكاد تكون طارئة، تفتقر إلى الاستدامة، وتُترك المجتمعات لتُعيد ترميم نفسها عاماً بعد عام. مشاريع صغيرة لجدران استنادية أو مصارف مياه تتآكل سريعاً أمام السيول. بعض القرى تَستَلهِم مما رأته على التلفاز من "تايات توتي"، لكن دون إرشاد تقني أو دعم هيكلي.

السؤال إذًا: إن كانت "التايات" ظهرت كحاجة، وتمت هندستها محليّاً، فلماذا لم تنتقل إلى المناطق المشابهة؟ لماذا لم تُنشر كمعرفة؟ ولماذا لم تُبنَ سياسات حماية مجتمعية حولها؟. لعل الإجابة تبدأ من مكان أبعد من الهندسة. لأن تايات توتي لم تكن فقط كتلاً طين. كانت تعبيراً عن فهمٍ عميق للمكان، وثقة في الذات الجمعية، وتكثيفًا لذاكرة الفيضان في شكل هندسة. افتقدت بقية المناطق هذا التوثيق، هذا الاعتراف المجتمعي، وهذا الربط بين التجربة الفردية والمصلحة العامة. وربما، كما تفشل الدولة في التوزيع العادل للموارد، تفشل أيضاً في توزيع "العبقرية" حين تُولد من الناس لا من النُظم.

فهل نحتاج إلى فيضان جديد… أم نحتاج فقط أن نصغي لما بنته أيادي الناس؟


ملاحظة سردية:

هناك مقاطع تقدم مشاهد سردية متخيلة، لكنها مستندة إلى التراث الشفهي وسلوك المجتمع التوتاوي الموثق في لحظات الفيضان. تمت صياغته بأسلوب تصويري لتقريب التجربة الحسية والفكرية للقارئ، دون الإخلال بواقعية الأحداث أو مصداقية النظام المجتمعي المعروض. هذا النوع من السرد يُعرف في دراسات التراث بـ"المحاكاة التفسيرية"، ويُستخدم لتجسيد القيم الإنسانية التي يصعب اختزالها في اللغة التقنية وحدها.

صورة الغلاف التقطتها زينب جعفر

المراجع

تعريف التاية: أمنية شوكت، ١ مايو ٢٠١٨، جزيرة توتى.. مرحبًا بفيضان النيل، موقع انفو نيل

تغير المناخ: ​​أمين، د.، قشطة، ع.، رجب، ر. وآخرون. تأثير تغير المناخ على الظواهر الهيدرولوجية المتطرفة (الفيضانات والجفاف) في حوض النيل الأزرق الأعلى. مجلة Earth Syst Environ (2025). https://doi.org/10.1007/s41748-025-00709-9

دراسة عن تاية توتي: سماح عبد الرحمن محمد أحمد طمبل حنان محمد حسن السواحلي الطيب إبراهيم المديح إبراهيم آل. زيادة القدرة على مقاومة الفيضانات في المناطق الحضرية من خلال المشاركة العامة: دراسة حالة لجزيرة توتي في الخرطوم، السودان. مجلة إدارة مخاطر الفيضانات (2024). 24 ص. /10.1111/jfr3.12966 (DOI)

الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. reliefweb.int. فيضانات السودان ٢٠٢٤ - عملية صندوق الإغاثة للإغاثة في حالات الكوارث (MDRSD034) ​​٦ سبتمبر ٢٠٢٤

تنبيه عاجل من مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في السودان: أمطار وفيضانات في ربك (قرية جزيرة أبا)، النيل الأبيض (تحديث 001): 21 ديسمبر 2024

ويكيبيديا، فيضانات السودان 2024

منظمة إنقاذ الطفولة الدولية. الحد من مخاطر كوارث الفيضانات وأنشطة العمل الاستباقي في ولاية النيل الأزرق، السودان (2024)

No items found.
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
رَيَّان بُشارة
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator
نبيل محمد نور طه

من جسدٍ إلى جدار، ومن مقاومةٍ إلى هندسةٍ للنجاة

(حكاية مجتمعٍ حَمى ذاكرته من الغرق، فصارت الأرض تحفظه كما يحفظها)

جزيرة عند ملتقى الأنهار: حين يصير الجغرافيا مصيرًا

في قلب العاصمة السودانية، حيث يلتقي النيلان -الأبيض والأزرق- تتوسَّد جزيرة توتي امتدادها الأخضر، كما لو أنها وُضعت عمداً بين الأنهار لتكون حلقة الوصل، أو ربما منطقة الاختبار.

ليست مجرد رقعة أرض محاطة بالماء، بل حالة جغرافية مُعقَّدة: من الشرق تحدّها الخرطوم بحري، من الجنوب الخرطوم، ومن الغرب أم درمان. أما من الأعلى، فسماءٌ مفتوحة لا تحمي، ومن الأسفل نهرٌ لا يمكن التنبؤ به، يحمل الطمي حيناً، ويجرُّ الغَمْر حيناً آخر.

هذا التكوين الجغرافي جعل من توتي أكثر من مجرد جزيرة زراعية تبلغ مساحتها حوالي 950 فدانًا؛ لقد جعل منها موضع اختبار دائم للنجاة. فكونها محاطة بالماء من الجهات الأربع، بلا مصدّات طبيعية، وبارتفاع بسيط لا يتجاوز أمتاراً معدودة عن سطح النيل، جعلَت من الفيضان عنصراً ثابتاً في معادلتها السنوية، وليس طارئاً موسميّاً. لذلك، لم يكن أمام سكانها خيار سوى أن يصبحوا خبراء في قراءة سلوك الماء، وفي هندسة الاستجابة قبل أن يصل البلل إلى العتبة.

في أماكن أخرى، تُصمَّم أنظمة الحماية ضدّ الكوارث في غرف مكيّفة، على الورق. أما في توتي، فقد صُمّمت "التاية" في التراب، بالجسد، وبالإرث.

هكذا، تحولت الجغرافيا من عبء إلى مدخل للابتكار، ومن خطرٍ يهدّد الحياة إلى باعثٍ على التضامن وبناء الذاكرة المجتمعية. فالفيضان في توتي لم يكن مجرد حدث طبيعي، بل شرط وجودٍ، و"التاية" لم تكن حلاً مؤقتاً، بل بنية مقاومة دائمة تُعاد صياغتها كل عام مع تغيّر النهر والمكان والناس.

لكن، ما التاية؟

ليست منشأة هندسية، وليست فكرة من خلف المكاتب. التاية في توتي هي خيمة تُنصَب عند أول بوادر الفيضان، لا للنوم بل للعمل. تتقاسم المجموعات أدوارها تحت ظلّها: فريقٌ يراقب منسوب النيل ليلاً ونهاراً، وفريقٌ يُسعف من تلسعه الحشرات والعقارب التي يأتي بها الغمر، وآخرون ينقلون الأثاث من البيوت المهددة، ويوزّعون الطعام، ويتواصلون فيما بينهم بانتظام دقيق.

هي غرفة عمليات من قماش وطين ونوايا صافية، تَظهَر في لحظة الطوارئ، وتختفي مع تراجع الخطر. التاية هي ما يصنعه الناس حين تغيب المؤسسات، وحين لا يبقى لهم إلا بعضهم البعض.

من جسدٍ يصدّ الماء، إلى نظامٍ يُعَلِّم كيف لا نغرق

لم تكن "تاية" توتي يوماً نظاماً مكتوباً، ولا مشروعاً أنشأته مؤسسة، بل وُلدت في لحظةِ رفض. في عام 1944، حين أمر الحاكم الإنجليزي بإخلاء الجزيرة لصالح ما أراده من مشاريع استعمارية، وقف الناس في وجه القرار بصمتٍ نابع من اليقين. رفضهم كان بداية القصة، لكن الفيضانات هي من صَقلتها.

حين ضرب فيضان 1946 الجزيرة، تراجعت سلطات الاحتلال، وتُرِكَ السكان وحدهم في مواجهة مصيرٍ مائيّ. لم يصرخوا، لم يفرّوا، بل شكّلوا بأجسادهم جداراً صدَّ الموج، وبأيديهم صنعوا أوّل "تاية" من لا شيء. كان ذلك الفعل أول تمرينٍ جماعيّ على الحماية الذاتية. ومع الوقت، نضج ذلك التمرين، وتحول إلى نظام اجتماعي هندسيّ – لا يُدرَّس في الجامعات، بل يُغرس في الذاكرة الشعبية. كل عام، كانت التاية تُعاد صياغتها وفقًا للمكان، والناس، والمخاطر.

تاية تنبض، تتغير، وتُورَّث.

هكذا وُلدت "هندسة النجاة"، وهكذا صارت تاية توتي واحدة من أذكى أشكال التضامن المجتمعي في وجه الطبيعة والخذلان.

حين يكون الإنذار طمياً، والصوت طيراً غائباً

في توتي، لم تكن التاية صدىً لصفارات الإنذار، بل عينٌ تراقب ما لا يُقال، ويدٌ تتحرَّك قبل أن يُطلب منها ذلك. حين تتغير زرقة النيل إلى لونٍ خبيث، حين يختفي طائر الغاق، حين تنكمش رائحة الطين وتصبح رطبة بشكلٍ مبالغ فيه؛ هذه إشارات تُلتَقط لا عن طريق أجهزة، بل عن طريق أجساد عاشت بجانب النهر طويلاً حتى صارت تفهم همسه. الناس لا يُعلِّمون أبناءهم هذه العلامات نظرياً، بل يمرّرونها خلال الأحاديث، والقصص، والركض العفوي نحو الجرف.

في تلك اللحظة، تُرفَع التاية. لا صراخ، لا طوارئ، بل تحوُّل فوريّ من الحياة العادية إلى حياة يقظة، كلٌّ فيها يعرف موضعه كما يعرف اسمه.

حين تُصبح الجماعة جسداً واحداً

ليست التاية خيمة تُنصب فحسب، بل مُجسَّم حيّ للتنظيم الجماعي. يتحوَّل الحيّ كله إلى شبكة من النقاط البشرية:

النساء: يكشف نظام "التاية" عن دور محوري ومُعترف به للمرأة التوتاوية، يتجاوز الأدوار النمطية:

المراقبة الحكيمة: العديد من النساء، خاصة كبيرات السن ذوات الخبرة الطويلة، كنّ خبيرات في قراءة علامات النهر والسماء. ثقتهنّ في تحليلاتهن كانت حاسمة في قرار التاية.

صنع القرار: مشاركتهن في تقييم الموقف ومناقشة ضرورة رفع الإنذار كانت فعالة. كانت آراؤهن تُحترم في المجالس غير الرسمية.

التنظيم الخفي: أثناء وبعد الإنذار، لعبن دوراً رئيسياً في تهدئة الروع، تنظيم نقل الأطفال وكبار السن، وتأمين المؤن الأساسية، ضمانًا لاستمرارية الحياة وسط الفوضى المحتملة. قيادة مجتمعية صامتة وقوية. إعداد الطعام في ساحات المساجد، لا لرجال أسرهنّ فقط، بل لمجهولين أصبحوا إخوة في المعركة.

الشيوخ يراقبون النهر كمن يقرأ وصيّة مكتوبة على سطح الماء. الشباب ينقلون الطين على أكتافهم، وبعضهم يملأ أكياساً بأحجارٍ مأخوذة من بقايا حائط مدرسة مهدّمة. حتى الأطفال يعرفون مواقع الضعف في التَّرَس، وأي الزوايا يجب دعك الطين فيها بإحكام. كلّ بيتٍ يُصبح نقطة تموين، كل شارع ممرّ إغاثة، وكل ساحة قيادة تاية لا تُغلق أبوابها. في ذلك، لا تُعاد فقط صياغة الحياة، بل تُختبر قدرة الجماعة على أن تُكَوِّنَ نظاماً من ذاتها، بلا حاجة لأي خارج.

١٩٤٦: حين وقف الجسد مكان الطين

في تشرين الأول من عام 1946، حين فاض النيل حتى نَسي اسمه، وقفت الجزيرة الصغيرة تواجهه بلا عتاد، بلا تمويل، بلا وعود. الرجال التفّوا حول الحافة، أذرعهم متشابكة، أجسادهم غارقة حتى الركب، وجفونهم لا تعرف النوم. أُفرغت مخازن الطعام من محتوياتها لتُحوَّل إلى أجولة صدّ، والأكياس المليئة بالأرز أُفرغت دون تردد، فقط لأنّ الماء لا ينتظر أن ننقذ غذاءنا قبل ذاكرتنا. النساء مَزَجنَ الطين بالماء، وجَعلنَ أجسادهنّ مصانع صغيرة للطوب الطيني العاجل.

حين وصل الخبر إلى العالَم

"الفقرة التالية تستند إلى محاكاة درامية واقعية مستلهمة من شهادات أهل توتي، تهدف لتقريب الصورة الحسية للقارئ دون أن تخلّ بالواقع الميداني للممارسات المجتمعية".

لم يكن ما يحدث في توتي سرّاً. عندما وصلت أخبار التنظيم الأهلي إلى المؤسسات الدولية، أرسلت الأمم المتحدة وفدًا من الخبراء. رأوا بأعينهم: رجلًا يقرأ ارتفاع المياه من عصا محفورة. طفلة تُسرع لجارتها الصمّاء لتنقذها. امرأة تَدفن بذوراً في إناء طينيّ، لتعود للحياة بعد الفيضان. قال أحدهم بدهشة: "هذه ليست إدارة كوارث.. هذا احتفالٌ بالحياة في وجه الموت".

بين هدير الحرب وهمس الفيضان: تاية اليوم تمشي على حد السكين

منذ اندلاع الحرب في 2023، لم تَعُد التاية كما كانت. المجتمع الذي كان يعمل كآلة واحدة، تَفَكَّك تحت وطأة النزوح، الغياب، والخوف. انخفضت نسب المشاركة، وتشتَّتَت العائلات، وارتفعت تكلفة البقاء.

الرمل، الذي كان يُؤخذ من الشاطئ، صار يُشترى أو يُستعاض عنه بركام البيوت المهدّمة. الخبراء، الذين يعرفون كيف يبنون التَّرس، باتوا سبعة فقط ممن بقوا في الجزيرة. لكن رغم ذلك، لم تختفِ التاية. كلما زاد الخطر، زاد عنادها. هي لا تحتاج إلى كثافةٍ لتعمل، بل إلى ذاكرة، والذاكرة لا تموت، بل تنتقل من جسدٍ إلى آخر.

تحديات العصر: هل تصمت أصوات التاية؟

اليوم، يواجه هذا التراث العبقري تحديات وجودية:

تغير المناخ: أصبحت أنماط الفيضان أكثر تطرّفاً ولا يمكن التنبؤ بها. فيضانات مفاجئة وعنيفة أو جفاف غير مسبوق يتحديان دقة الملاحظة التقليدية القائمة على أنماط تاريخية مستقرة نسبيّاً (مصدر: تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC حول منطقة حوض النيل).

التوسع العمراني والبنى التحتية: سدود جديدة، تعديل مجاري الأنهار، وزحف العمران في الخرطوم وأمدرمان يغيّران ديناميكيات تدفق المياه حول توتي بشكل قد لا تستوعبه معادلات "التاية" القديمة بالكامل.

النزوح وضعف التماسك: نزوح بعض الأسر والضغوط الاقتصادية أَضعفت في بعض الجوانب ذلك التماسك المجتمعي العضوي الذي كان وقودَ نظامِ "التاية".

نقل المعرفة للأجيال الجديدة يحتاج جهدًا واعياً.

التاية ليست خيمة، إنها حاسةٌ سادسة تُولد من العلاقة بين الناس والمكان

في توتي، لا تُبنى السدود فقط بالطين، بل بالثقة. لا تُرفع التايات لأن الدولة أَمَرت، بل لأن الجغرافيا هَمست، ولأن التاريخ علَّم. الماء هنا ليس أزمة موسمية، بل اختبارٌ متكرر لقدرة الناس على تَذكُّر أنفسهم كجماعة، لا كأفراد.

في كل موسم فيضان، يعود السكان ليعيدوا تشغيل ذاكرتهم المجتمعية. لا أحد يسأل الآخر: "ماذا أفعل؟"، بل يبدأ الفعل تلقائياً، كما لو أن الوعي الجمعي سبق السؤال. وحدها المجتمعات التي تعلَّمت أن تحيا بقرب النهر دون أن تركع له، هي من تنشئ مثل هذا النظام: نظام لا تصمّمه الجهات، بل تُولّده الحاجة، ويتغذَّى على المروءة، ويكبر كلما ضاقت الخيارات. التراث الحقيقي لا يُحفَظ في كتب، بل يُمارَس. وتاية توتي ليست ذكرى رومانسية، بل نظام بيئي اجتماعي حيّ، يعلّمنا:

- كيف نحمي أنفسنا بأنفسنا.

- كيف نقرأ علامات الأرض.

- كيف نُنقذ بعضنا بعضاً دون انتظار إنذار رسمي.

في زمن الأقمار الصناعية والتطبيقات، قد يتغير شكل التاية، لكنها ستبقى ما دامت الجزيرة تؤمن أن الإنذار الحقيقي يبدأ من الوعي، وأن النجاة تبدأ عندما نُصغي لهمسات النهر، لا حين يصرخ. التاية ليست خيمة، بل ثقافة مقاومة، تكنولوجيا فطرية، وبوصلةٌ تشير دوماً إلى حيث يكون الإنسان في مركز الحل، لا في هامش النجاة. وربما لهذا السبب، لم تختفِ التايات حتى حين اختفى كل شيء آخر. لأنها، ببساطة، ليست شيئاً يُبنى… بل شيءٌ يُؤمَن به.

من تايات توتي إلى الجزيرة أبا: لماذا لم تنتقل عبقرية النجاة إلى بقية السودان؟

حين ابتكر الإنسان درعه بيديه، وواجه فيضانه بالمقاومة لا بالانتظار، وُلدت "تايات توتي". لكن، هل امتدت هذه العبقرية إلى بقية السودان؟

في قلب الخرطوم، تحديدًا في جزيرة توتي، لم تنتظر المجتمعات المحلية "وصول النجدة". بل حَاكَت نجدةً ذاتية من الطين والشجر والحدس الجمعي، فظهرت "التاية" كأيقونة سودانية في فن النجاة من الغرق. لكن حين يتدفق النيل الأبيض فوق ضفّاته في الجزيرة أبا، أو حين تغرق سنار، أو الرصيرص، أو الدندر، أو حتى أطراف نيالا… أين تختبئ هذه العبقرية؟ ولماذا لا تُنسخ تايات توتي هناك؟.

في الجزيرة أبا، يواجه الناس الفيضانات بنفس الوعي المقاوم، لكن بإمكانات أقل تنظيماً. يعتمد السكان المحليون على سدود ترابية تقليدية، ودعامات من الأكياس الرملية، وجهود مجتمعية خالصة، أشبه بمدٍّ جسديّ يتكئ على الأمل. غالباً ما تتَحرَّك المنظمات في وقت متأخر، وتصل الدولة متأخرة أو لا تصل أبداً، ومع ذلك، لا تتوقف الحياة.

أما في الدندر، حيث تتحوَّل التربة إلى فخاخ من الطين، فقد نشأت بعض أشكال "التايات" الغريزية -يقوم الأهالي برفع منازلهم على قواعد حجرية أو طينية، ويبنون حواجز يدوية من بقايا مواد البناء. لا أحد أطلق عليها اسماً، لكنهم جميعاً يفهمون أن ما يبنونه هو لحظة نجاة. في هذه المناطق، "النجاة" تُنسج من الشراكة أكثر من المعرفة، ومن العادة أكثر من الدراسة.

في نيالا وسنار، ومع تصاعد ظواهر تغير المناخ، ازدادت الفيضانات العشوائية. الحلول تكاد تكون طارئة، تفتقر إلى الاستدامة، وتُترك المجتمعات لتُعيد ترميم نفسها عاماً بعد عام. مشاريع صغيرة لجدران استنادية أو مصارف مياه تتآكل سريعاً أمام السيول. بعض القرى تَستَلهِم مما رأته على التلفاز من "تايات توتي"، لكن دون إرشاد تقني أو دعم هيكلي.

السؤال إذًا: إن كانت "التايات" ظهرت كحاجة، وتمت هندستها محليّاً، فلماذا لم تنتقل إلى المناطق المشابهة؟ لماذا لم تُنشر كمعرفة؟ ولماذا لم تُبنَ سياسات حماية مجتمعية حولها؟. لعل الإجابة تبدأ من مكان أبعد من الهندسة. لأن تايات توتي لم تكن فقط كتلاً طين. كانت تعبيراً عن فهمٍ عميق للمكان، وثقة في الذات الجمعية، وتكثيفًا لذاكرة الفيضان في شكل هندسة. افتقدت بقية المناطق هذا التوثيق، هذا الاعتراف المجتمعي، وهذا الربط بين التجربة الفردية والمصلحة العامة. وربما، كما تفشل الدولة في التوزيع العادل للموارد، تفشل أيضاً في توزيع "العبقرية" حين تُولد من الناس لا من النُظم.

فهل نحتاج إلى فيضان جديد… أم نحتاج فقط أن نصغي لما بنته أيادي الناس؟


ملاحظة سردية:

هناك مقاطع تقدم مشاهد سردية متخيلة، لكنها مستندة إلى التراث الشفهي وسلوك المجتمع التوتاوي الموثق في لحظات الفيضان. تمت صياغته بأسلوب تصويري لتقريب التجربة الحسية والفكرية للقارئ، دون الإخلال بواقعية الأحداث أو مصداقية النظام المجتمعي المعروض. هذا النوع من السرد يُعرف في دراسات التراث بـ"المحاكاة التفسيرية"، ويُستخدم لتجسيد القيم الإنسانية التي يصعب اختزالها في اللغة التقنية وحدها.

صورة الغلاف التقطتها زينب جعفر

المراجع

تعريف التاية: أمنية شوكت، ١ مايو ٢٠١٨، جزيرة توتى.. مرحبًا بفيضان النيل، موقع انفو نيل

تغير المناخ: ​​أمين، د.، قشطة، ع.، رجب، ر. وآخرون. تأثير تغير المناخ على الظواهر الهيدرولوجية المتطرفة (الفيضانات والجفاف) في حوض النيل الأزرق الأعلى. مجلة Earth Syst Environ (2025). https://doi.org/10.1007/s41748-025-00709-9

دراسة عن تاية توتي: سماح عبد الرحمن محمد أحمد طمبل حنان محمد حسن السواحلي الطيب إبراهيم المديح إبراهيم آل. زيادة القدرة على مقاومة الفيضانات في المناطق الحضرية من خلال المشاركة العامة: دراسة حالة لجزيرة توتي في الخرطوم، السودان. مجلة إدارة مخاطر الفيضانات (2024). 24 ص. /10.1111/jfr3.12966 (DOI)

الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. reliefweb.int. فيضانات السودان ٢٠٢٤ - عملية صندوق الإغاثة للإغاثة في حالات الكوارث (MDRSD034) ​​٦ سبتمبر ٢٠٢٤

تنبيه عاجل من مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في السودان: أمطار وفيضانات في ربك (قرية جزيرة أبا)، النيل الأبيض (تحديث 001): 21 ديسمبر 2024

ويكيبيديا، فيضانات السودان 2024

منظمة إنقاذ الطفولة الدولية. الحد من مخاطر كوارث الفيضانات وأنشطة العمل الاستباقي في ولاية النيل الأزرق، السودان (2024)